د. أحمد زويل يتحدث عن تجربة نهضة " ماليزيا " المثيرة
لقد بهرني ما كنت أتابعه عن ماليزيا ، إلى أن شاهدت بنفسي معالم النجاح بعد أن تلقيت دعوة رسمية لزيارتها
كنت مدعوا لإلقاء محاضرة عامة ، و كان جدول زيارتي يتضمن لقاء مع الدكتور " مهاتير محمد " و قد التقيته في مدينة جديدة تدعى " بوتراجايه " ،و هي مدينة بنيت بالكامل في عهد " مهاتير "و تكفي زيارة هذه المدينة لنكتشف طبيعة الرجل و طبيعة تجربته ، فهي مدينة منظمة و أنيقة ، و قد بنيت جميع منشآتها لأهداف و وظائف محددة ، و جرى تنظيمها لتسهيل عمل ا لدولة و أجهزتها المركزية ،و يتوسط المدينة مسجد رائع يمثل بحق تحفة العمارة الإسلامية
و من هذه المدينة يمكن فهم ماليزيا ، فهي دولة عصرية تساير التقدم العالمي و مع ذلك تجد الإسلام فيها قوياو حاضرا دون تعارض بينهما
و ربما يكون هذا أهم ما قدمت ماليزيا للعالم الإسلامي المعاصر ، التقدم و التدين معا
ذلك أن التدين الماليزي يتسم بالتسامح و الاستنارة
و قد استمتعت بزيارة المساجد و الخطاب الديني المستنير
و المرأة المسلمة في ماليزيا ليست عبئا على الحياة العامة ، كما أنها لا تستغرق في إظهار تدينها و الإعلان عن التزامها الأخلاقي ، بل إنها جزء من النسيج الاجتماعي مثل الرجل تماما ، و تمارس عملها و حياتها مثل المرأة الغربية ، و لا يفرق بين المرأة الماليزية و بين نظيرتها في الغرب إلا ارتداء الحجاب و إطلالة الثقافة الإسلامية ، وأذكر أنني حين زرت ماليزيا كانت تتبعني مرافقتان ، واحدة مسلمة محجبة و الثانية هندوسية .. كانت كلتاهمانموذجا للكفاءة و الانضباط
يتعايش المسلمون في ماليزيا مع البوذيين و الهندوس في درجة عالية من التسامح ، وهم في هذا التسامح لا ينطلقون من موقف أخلاقي فقط ، بل هم يدركون تماما أن عدم التسامح سوف يؤدي إلى هزيمة الجميع
و قد قال لي مهاتير محمد : كان لابد من خلق حركة في هذا البلد ،و قد استلزم ذلك تغيير عقلية المواطن الماليزي
و قد فعلت ذلك من خلال أمرين : الأول تغيير نظام التعليم حتى يعادل التعليم المتقدم في العالم و يتفاعل مع الثورات العلمية المعاصرة . و الثاني تصحيح الوضع الاجتماعي و الاقتصادي للمالايو الذين يشكلون اغلبية السكان
و في الواقع فإن الدكتور " مهاتير " يمتلك فكرا سياسيا رفيعا هو ما جعل من سياساته استراتيجية متكاملة . و هو فوق ذلك يمتلك شخصية قوية و بسيطة ،و أذكر أنني حين زرته في مكتبه الرسمي في " بوتراجايه " لاحظت للوهلة الأولى مدى ثقته و بساطته ، و حين جلست معه تأكد لي ما كنت أعرفه عنه من ثقافة واسعة و رؤية ثاقبة ، و من السهل أن تدرك أن الرجل الذي تجلس معه هو قارئ جيد للتاريخ و مخطط جيد للمستقبل
لقد حكى لي مهاتير و قال : إنني فكرت _ مع الآخرين _ كيف ننقذ هذا البلد مما هو فيه ؟ و كيف ننقل الماليزيين من أطباق الأرز الفقيرة إلى آفاق الرخاء ؟
و قد اعتمد " مهاتير " في تجربته على ثلاث ركائز أساسية : على الوحدة الوطنية حتى لا يكون الجهد أو العائد مقصورا على طائفة دون الأخرى ،و حتى يشعر الكل بأن التجربة هي تجربتهم و أن النهضة تستهدف الرخاء للجميع . و الركيزة الثانية .. الاتجاه شرقا و الإفادة من التجربة الواسع لليابان ، و الثالثة .. الإصلاح غير التدريجي و الانتقال السريع إلى التكنولوجيا الحديثة
لقد بنى مهاتير مؤسسات الدولة على نحو بارع ، و شارك بنفسه في وضع الخطة الاستراتيجية للتنمية
( ماليزيا 2020 )
و يعتقد البعض أن مهاتير فعل كل هذا النجاح على حساب التطور السياسي و الديموقراطي في البلاد
لكنني أميل للاعتقاد بأن" مهاتير " لم يكن ديكتاتورا ، و أدلل على ذلك بما اتخذه هو نفسه من قرار تاريخي ، حيث اختار راضيا و بمحض إرادته أن يترك السلطة
و حين سألته _ قبيل مغادرته السلطة _ هل تنوي ذلك فعلا ؟ .. قال : هذا قرار نهائي
و إذا كانت ماليزيا بعد أكثر من عشرين عاما من تجربتي في الحكم غير قادرة على أن تمضي بمفردها ، يصبح كل ما فعلناه خطأ ، و ما لم تجد البلاد قيادات سياسية جديدة تكمل طريق ماليزيا إلى المستقبل ، فالمعنى الوحيد لذلك .. أنني فشلت
و قد مضى الوقت ، و ترك مهاتير السلطة ، و نجحت ماليزيا في الاستمرار ، و أما " مهاتير " نفسه فهو مرشح الآن لنيل جائزة نوبل للسلام تقديرا له على تجربته في تقديم نموذج للتنمية المتقدمة في مجتمع إسلامي يحتوي على ديانات و عرقيات مختلفة ، و في تقديري فإنه يستحق الجائزة .و سيبقى فكره السياسي و الاقتصادي مصدر إلهام يحظى بالتقدير و الاهتمام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق